العنبر اللبناني: ثروة عالمية تحاكي حقبات تاريخية
“عالم العنبر نوافذ استثنائية مشرّعة على الماضي السحيق، من خلاله نفهم تطوّر الكائنات الحية عبر العصور”، بهذه الكلمات يأخذنا الباحث في مجال المستحثَّات Fossils من الجامعة اللبنانية البروفسور داني عازار إلى هذا العالم المسكون بالدهشة والجمال، قبل الغوص في بحر علمه، والتعمق في دراساته وأبحاثه؛ وقد نافت على الـ 350 دراسة وبحثاً، تتناول بجزئها الأكبر العنبر اللبناني، وما يحفل به من مستحثات تحاكي حقبات موغلة في القدم، تتعدى أهميتها العلمية لبنان، كونها تمثل حلقات مهمة في نشأة وتطور الحياة على الأرض.
وآخر اكتشافاته، العثور على عيّنات رائعة من الكهرمان العنبري في طبقات رملية بمنطقة حرار (عكار)، ترقى إلى العصر الطبشوري السفلي (أي إلى حوالي 130 مليون سنة). وقد وثق عازار والدكتورة سيبال مقصود وخالد طالب من درب عكار هذا العنبر المكتشف بالصور منذ أيام عدة، عبر منشور تصدَّر مجلة Palaeoentomology العلمية، ليضيف إنجازاً آخر إلى قائمة إنجازاته وأبحاثه.
المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي
بكثير من الفضول تعرفنا إلى البروفسور عازار (الأستاذ المحاضر والباحث في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية)، وأول ما قاله لـ “أحوال” إنّ “طبيعة لبنان منحتنا أجمل بلد في العالم؛ لكن للأسف، السياسة تخرِّب كل شيء”. قاصداً بذلك الإهمال والفوضى وعدم إيلاء البحث العلمي ما يستحق من اهتمام، فضلاً عن تخريب وتشويه معالمنا الطبيعية، لافتاً إلى أن “لبنان من الأغنى والأول في العالم بالعنبر، خصوصاً في بعض مواقعه التي تحتوي على بقايا كائنات حية”.
ولذا، لا نستغرب أن يشدّد عازار دائماً على ضرورة إنشاء المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي، أسوة ببقية دول العالم، ورأى أنّ مثل “هذا الأمر بحاجة لعمل مؤسساتي محلي”، مؤكداً السعي والعمل من أجل أن يتبنى المعنيون “إقرار قانون بهذا المجال يتضمن أيضاّ حماية بعض المواقع”.
وقال: “أصبح لبنان نقطة فارقة على خارطة المستحثات عبر الدراسات المتتابعة، وقد نظمت مؤتمراً عالمياً للعنبر والحشرات المتحجرة في مدينة جبيل 2013، برعاية رئيس الجمهورية آنذاك ميشال سليمان، وقد وعدنا منذ ذلك الوقت بإنشاء مثل هذا المتحف”، لافتاً إلى أن “العديد من متحجراتنا تباع في الأسواق لعدم وجود قوانين تحميها، علماً أن بعض المؤسسات الخاصة واعية لهذا الأمر، وتعرض علينا عينات ولا تبيعها”.
المقالع والكسارات كارثة ووبال
ورأى عازار أن “هناك تقصيراً من الدولة في مجال حماية هذه الثروة الموغلة في القدم”، وقال: “في الدانمارك على سبيل المثال، ثمة قانون يلزم بعرض المستحثات على لجنة علمية قبل بيعها، فإن كانت مهمة يتم حفظها في متحف، ويُعطى صاحبها تعويضاً، ويخلّد اسمه بجانبها لتشـَاهد من قبل أقربائه وأحفاده، لكن في الدول العربية نفتقر لثقافة المتاحف وللأسف يخلطون مفهوم المتحف بالمعرض”.
ووصف عازار وضع المقالع والكسارات بأنها “كارثة ووبال على هذه الثروة العلمية التي لا تقدر بثمن، حيث يقضون على مناطق تستحق أن تكون منتزهاً جيولوجياَ Geo Park. ولو تم تقدير وطننا بالصورة الصحيحة، لاستحق أن يتحول كله إلى منتزه جيولوجي، وضمه إلى لائحة التراث العالمي لليونسكو”. ومن المناطق التي “تستحق أن تعلن منتزها جيولوجياً”، قال عازار “هي وادي جزين، قاديشا وعكار”، منوِّهاً إلى أن هذه المناطق “تتمتع بتنوع بيولوجي وجيولوجي فريد من نوعه في العالم”.
أقدم عنبر في العالم
ما يثير الاهتمام، تأكيد عازار بأنّ “ليس ثمة في العالم عنبر بِقِدم وأهمية العنبر اللبناني، كونه يرقى إلى العصر الطبشوري السفلي، وهو أقدم عنبر في العالم، ويحتوي هذا الكم من الحشرات المتحجرة”، ورأى أن “الأهمية الأكبر أنه ظهر في عصر بداية النباتات المزهرة، أو الكاسيات، Angiosperms”، لافتاً إلى أن “ثلاثة أرباع النباتات الحالية تعود أصولها إلى الوقت الذي تكون فيه العنبر اللبناني، إذ يؤرّخ لنقطة مفصلية في تاريخ التطور، حيث انقرضت عائلات من الحشرات لتحل مكانها أخرى”.
وأضاف: “كوننا في لبنان نعشق الأرقام القياسية كغينيس وغيرها، فأؤكد أنه يمكن كتابة مجلدات من الأرقام القياسية حول العنبر اللبناني، فلدينا من المستحثات والعنبر ما يحتوي على بقايا ديناصورات في وادي جزين وحمانا وميروبا، وثمة اكتشاف هام للغاية، وفي القريب العاجل سيتم نشره في إحدى المجلات العلمية المرموقة”.
وأكد عازار أنّه “لا يوجد أي عنبر في العالم يعود إلى هذا التاريخ، فضلاً عن حفظه لنباتات وأنواع من الكائنات الحية بهذا العدد وفي هذه الفترة”، لافتاً إلى أن ثمة “عائلات من الحشرات كانت تختفي مع البيئة القديمة. وبالمقابل هناك حشرات بدأت بالتطور مع البيئة الجديدة المرافقة للنباتات المزهرة، وتعتبر نقطة مفصلية لفهم تطور الكائنات على الكرة الأرضية”.
التنوع البيولوجي الأحفوري
وعمّا إذا كانت ثمة فروقات بين العنبر والكهرمان والكوربة واختلاف الألوان، قال عازار: “هي تسميات لها نفس المعنى، فالعنبر هو بحد ذاته صمخ نباتي متحجر، وهذه تسميته باللغة العربية، بينما يعرف بالكهرمان والكوربة بالفارسية والتركية، أما الإختلاف بالألوان فهو من فعل التأكسد وتعرض العنبر للهواء، وليس هناك أهمية مادية للعنبر اللبناني، والأهم قيمته العلمية فهو من أسوأ الأنواع كمجوهرات وخلافه كونه يتفتت سريعا”.
واعتبر أن “غنى لبنان بالعنبر يعود إلى الماضي السحيق قبل أكثر من 130 سنة، عندما كان لبنان جزءاً من قارة غوندوانا Gondwana (القارة التي انبثقت عنها الهند وأستراليا وقارة أنتارتيكا وشبه الجزيرة العربية وأفريقيا ومدغشقر وأميركا الجنوبية)، في شمالها الشرقي ويقع على خط الإستواء، وهو ما يفسّر الغنى في التنوع البيولوجي الأحفوري وكانت من القارات العظمى، يحدها شمالا وشرقاً محيط كبير الـ Tethys وهو ما يفسر المستحثات البحرية المختلفة التي نجدها في أعلى الجبال، والبحر المتوسط هو بقايا هذا المحيط العظيم”. ولفت عازار إلى أنّ “هناك تنوعاً بيولوجياً متحجراً ليس له مثيل، وثمة بقايا لكائنات حية مختلفة من الحشرات والعناكب والسلاحف النهرية والزواحف وريش الطيور وغيرها”.
لبنان منتزه جيولوجي كبير
ورأى عازار أنّه “بسبب العنبر اللبناني تغيرت مفاهيمنا حول التطور، خصوصاً وأنني أستطيع وباستخدام تقنيات تركيب صورة ثلاثية الأبعاد D3، أي بصورة كاملة، من خلال Micro Ct scan وصور شعاعية X-Rays، أن أراها وكأنها أمامي كما لو كنت في حقل قبل التاريخ وألتقطها وأفحصها”.
وأضاف: “نستقي معلومات وكأننا نقوم بتحقيق جنائي، فلقاح النباتات Pollen، مكنّنا من التعرّف على ما بين 40 و50 نوعاً من النباتات التي كانت متواجدة في ذلك الوقت، منها من أجداد شجرة الأرز الحالية والسرخسيات وغيرها، عدا عن التركيبة البيولوجية المحيطة من رطوبة وهواء ورياح وتربة. كما وأن الحيوانات البحرية المجهرية تحدّد عمر الطبقات والعصور الجيولوجية، فضلاً عن أن الصخر الكلسي هو بقايا الصدفيات التي تحلّلت بالماء”، وعن عدد الأنواع المكتشفة والتي أعطاها أسماء علمية حتى الآن، قال عازار: “عددها يزيد على 450 نوعاً، منها عائلات جديدة، لذا أعود وأؤكد أنّ لبنان منتزه جيولوجي كبير”.
الصخور البترولية
وأشار عازار إلى أن “هناك نوعا من الصخور البتروليةOil shale وجدناها في أكثر من 70 موقعاً في لبنان، وتحتوي غاز البيوتان (غاز منزلي) والميثان والبارافين (يستخدم في الصناعات البتروكيميائية) والنفط وزيت النفط وغيرها. ولأعطي فكرة عن أهمية هذا النوع من الصخور في لبنان، حيث يستخرج منه البترول، وإن كنا لا نعرف كميته أو جدواه الإقتصادية، فإنّ نسب البترول في الصخور البترولية اللبنانية تتراوح بين 7 و50 بالمئة حسب المواقع. وفي الصين مثلا، فإنّ نسبة البترول في مثل هذه الصخور لا تتجاوز 3 و6 بالمئة، وفي الولايات المتحدة الأميركية لا تتجاوز النسبة 13 بالمئة، وفي روسيا 11 بالمئة، ويتم استخراج البترول الصخري منها، ولكني أفضل ألا يتم استخراج أي شيء، على الرغم من أن هناك احتمالا لجدوى اقتصادية هامة، وهذا في البر، ولم نكتشف إلا نسبة ضئيلة، فماذا عن البحر؟”.
وختم: “صدقت الرائعة فيروز حين غنت لبنان ووصفته بـ (جبال العنبر)، لا أعرف إن كان وجود العنبر في بلدنا نعمة أم نقمة، كوننا لا نعرف الحفاظ على هذه الثروة، فهو كنز علمي لا يقدر بثمن، وعندما يسمع أحدهم كلمة كنز يعتقد أن ثمة قيمة مادية لهذا الإكتشاف، وهنا أجزم بأن ليس هناك قيمة مادية بل علمية لا تقدر بثمن. فعسى أن نستطيع الحفاظ على هذه الثروة، إلا أننا كبشر ساهمنا بتدمير ما انتجته الطبيعة على مدى ملايين السنين”.
داني عازار: السيرة الذاتية
في مسيرته العلمية ما لا يقل عن 20 منشور علمي سنوياً، وتسلّم عازار رئاسة المجتمع العالمي لدراسة الحشرات المتحجرة International Palaeoentomological Society على دورتين (2013-2019)، وساهم في تأسيس مجلة علمية عالمية متخصصة في دراسة العنبر والمفصليات الأرضية وتطورها في نيوزيلاندا واسمها Palaeoentomology، وهو محرّرها الرئيسي Editor in Chief.
وعازار عضو في لجان التحرير لأكثر من 25 مجلة علمية عالمية متخصصة بمجالات الجيولوجيا وتصنيف الحشرات والكائنات الحية، فضلاً عن تأسيس الجمعية اللبنانية لدراسة الأحفوريات والتطور في العام 2015.
أنور عقل ضـو
ماذا عن إكتشافات البروفيسور رئيف ملكي بخصوص العنبر اللبناني The Lebanese Amber مع كل الإحترام